بسم الله الرحمن الرحيم
نبش في ذاكرة الصمود والتحدي لمدينة أغردات
بقلم : مهندس سليمان دارشح
28/2/2023م
البطولات والتضحيات الكبرى تدخل طي النسيان ، متي تأخر صانعوها ومعاصروها في توثيقها ، فتحرم أجيال من التعرف على تاريخ تلكم المآثر الخالدة ، وفي هذا السياق يأتي مقالنا هذا ، الذى نتناول فيه شيئا من صمود وتحدي مدينة من المدن الأرترية الشامخة ، انها مدينة أغردات ، التي تأبت عن الترويض كفرس جموح ، ورفضت القبول بأمر واقع والانحناء للمستعمر البغيض ، فكانت مهداً وسنداً قوياً لثورة حزمت آنذاك أمرها
وهنا قبل أن ننبش في ذاكرة الصمود والتحدي لمدينة أغردات يحسن بنا أن نتحدث قليلاً عن جمال وطبيعة تلك المدينة الرائعة وأهلها الطيبين
فنقول: إن ما جاء على لسان الناس في وصف طبيعة أغردات الساحرة، لم يأتي من فراغ ، ولكنه حقيقة ، فالناظر لمدينة أغردات من قمة جبل ولت أبرق (الواقع غرب المدينة) ، خاصة في أيام الخريف ، يرى حلية أغردات الربوة الشرقية ، يراها مشرئبه كحسناء جميلة شامخة كشموخ أهل أغردات وإذا أمتد نظرك على الجهة الشمالية من المدينة ، سوف تري نهر بركة (الموسمي) وقد لفَّ بالساعد خصر أغردات عفيفاً ، وقد زرع أهلها على ضفتيه الخصبة ، حدائق غلباً وفاكهة وأبا متاعاً لهم ولأنعامهم .. واذا أعدت النظر كرة آخري ترى سلسلة الجبال- كوكن، ودبرسلا ، نتحنايق ، كموط ، مشهاتيت ، أقبرمنعا ، حلاقاً، دقسي ، قيح رأسو وغيرها – تلف عنق أغردات ، كأنها عقد جميل في غاية الجمال والروعة ..وإذا نظرت الى وسط المدينة ترى جامع أغردات الكبير بمأذنته الشاهقة وقبابه وبواباته الداخلية الجميلة ومدارج مدخله الخارجي الرائع ، وقد أعطى هذا المسجد المدينة هيبة ووقار .. وتري أيضا ساحة جامع الأرواح – ساحة صلاة العيد -والناس جالسين على هيئة حلقات ومجاميع للتفاكر في أحوال البلاد، اصلاح ذات البين ، وحل النزاعات بين القبائل والأفراد.. وتشاهد أيضاً في وسط المدينة بجوار الجامع الكبير مدرسة الأولاد القديمة ، وهي من أقدم وأقوي المدارس في إريتريا كان آنذاك يقود فيها التعليم معلمون وطنيين مخلصين نبغاء أكفاء ، يمارسون رسالتهم التربوية والتعليمية بإقتدار ليتخرج علي أيديهم طلاب كان لهم شأن كبير في مجالاتهم .. وبجوار مدرسة الأولاد تشاهد المعهد الديني الإسلامي، الذي يُعَدّ منارة للعلم والمعرفة واستنفار الهمم وتهذيب النفوس في عموم المنطقة.. وكذلك تشاهد مبني ” فورتو” وهو مقر الإدارة العليا للمديرية الغربية ، فقد شيده الاحتلال الايطالي على تلة عالية ، تطل على كل معالم المدينة من أبنية و بساتين وغابات أشجار الدوم الكثيفة ذات الظل والثمر ، التي تحيط بالمدينة من ثلاثة جهات ، شرقاً ، وغرباً ، وشمالاً ، وفق التواءات مجرى خور بركة وترى كذلك سوق أغردات الشعبي القديم الحاشد والعامر بالأقمشة والخردوات والذرة بأنواعها والسمسم واللحوم واصناف الخضروات والفاكهة ومنتجات سعف البير(كعلي) وتشاهد أيضا سوق المواشي ، الذي يُعَدّ واحداً من الاسواق المهمة في البلاد ، فهو الواجهة الأولي لتجار المواشي الراغبين في شراء شتي أنواع المواشي والانعام وهذه الأسواق تحكي قصة الإلفة والتعاون والأمانة والصدق والنزاهة المتوارثة من تاجر إلي تاجر.. وتشاهد أيضا امتدادات أحياءها العريقة وشوارعها المتناسقة التي تسر العين وتفرح القلب والتي تحكي أجمل الذكريات .. ويزيد من جمال مدينة أغردات العريقة عراقة التاريخ ، طيبة أهلها الأصليين وحُسن خلقهم وبساطتهم وتواضعهم الجم وثقافتهم العالية، فسماحتهم غيث ونجدتهم غوث وكرمهم فياض متدفق ، يشمل القريب والبعيد ، لا يعرفون الحقد والكراهية والتعصب والتشرذم القبلي والعرقي والطائفي ، مشهود لهم وقوفهم بقوة مع الحق والاعتدال والفضيلة والتفاني في خدمة الوطن والشعب ، عمل الخير قد ولد معهم ويسير معهم حيث ساروا ، ولهم فيه المواقف المشهودة والجهود الطاهرة ، وهم مضرب مثل في الطيبة والشجاعة والإقدام والمروءة
كل ذلك الوصف وغيره عن أغردات ، قد يحسن ويشعر به أبناؤها حين يغادرونها لأي منطقة في إرتريا أو خارج إرتريا ، حيث أنهم يسمعون الناس يصفون مدينتهم وأهلها بأجمل الصفات ، وحقيقة ان عبارات الثناء والاطراء لأبناء أغردات ليس فقط من ابناء إرتريا ، الذين أتيحت لهم الفرصة لزيارة أغردات أو معاصرة بعض أبناؤها في مجال العمل والدراسة وغيرها ، ولكن تلمس وتحس هذا الثناء والاطراء حتي من غير الارتريين الذين زاروها أو عاشوا فترة من حياتهم فيها ، حدثني أحد من هؤلاء الرجال قائلا : أغردات أرض زرع وضرع وخير وفير ، والطبيعة الجميلة تحفك من كل اتجاه ، والبساطة تشع من وجوه أهلها الطيبين ، ويغمرونك بالاهتمام والابتسام والاحترام ، ولا تحس أنك غريب بينهم ، بل تحس أنك جزء أصيل من النسيج الاجتماعي في المدينة ، عشنا في هذه المدينة أجمل أيام حياتنا ، ومنحتنا الامن والسلام والحياة الكريمة التي قد لا تكون في ذلك الزمان متاحة لنا في بلادنا “
هكذا ترى أغردات الضاربة في عمق المجد والاصالة والتاريخ في عيون الآخرين، كرم الضيافة ، سلام ، أمان ، مودة ، اخاء
أما الحديث عن صمود وتحدي مدينة أغردات ، حديث واسع يعجز القلم عن تدوينه وبيان تفاصيله ولكننا في هذه العجالة ننبش القليل من ذاكرة الصمود والتحدي لمدينة أغردات ، فنجد في هذه الذاكرة : نتيجة نضوج الظروف الذاتية والموضوعية ، فان المديرية الغربية في عمومها ومدينة أغردات على وجه الخصوص ، كانت سباقة في رسم صفحة مضيئة ومشرقة في حياة الشعب الارتري ومقاومته للاحتلال الاثيوبي ، حيث انها شهدت بدايات الحراك الذى سبق اعلان الكفاح المسلح ، وعند إنطلاق شرارة الكفاح المسلح للثورة الإرترية في العام 1961م أضحت أغردات وما حولها بيئة ملائمة للثوار وتحركاتهم ، وقد ظلت شرارة الثورة المسلحة متوهجة حتي عمت كل ربوع الوطن
وبقدر ماجسدت هذه المدينة طموح الشعب الارتري في الحرية ، فقد شهدت أيضا أول عمل فدائي جري في تاريخ الثورة الأرترية المسلحة بقيادة الشهيد البطل حامد ادريس عواتي وكوكبة من رفاقه الأبطال ، الذين جعلوا من أرواحهم مشاعلاً أنارت الطريق للذين عاصروهم وكل الأجيال التي جاءت من بعدهم
وقبل شهر من تنفيذ هذه العملية دعا ممثل الامبراطور في إرتريا الجنرال أبي أببي كل نظار القبائل والمشايخ والأعيان في إرتريا إلي العاصمة أسمرا وخاطبهم بصيغة مزيج من الترهيب والترقيب علي ضرورة أن يلعبوا دوراً إيجابياً لإطفاء وإخماد الثورة في مهدها ، ثم دعا لاجتماع جماهيري ، واختار أن يكون الاجتماع في مدينة أغردات الباسلة ، التي تمثل عقر دار الثورة ، وربما كان هذا الاختبار لأسماع تهديداته وتبجحه لأكبر حشد فيها.
ففي صباح الثاني عشر من يوليو من العام 1962م حضر إلي هذا الاجتماع ومعه عدد من الوزراء والنواب وعلي رأسهم رئيس الحكومة الصورية في إرتريا أسفها ولدو ميكائيل ، بينما كان أبي أببي يلقي خطابه أقتحم فدائيو جبهة التحرير الإرترية الاجتماع وأمطروه بالقنابل اليدوية ، فخلف هذا العمل الجسور عدداً من القتلى من بينهم وزراء من الحكومة الأثيوبية ، وعدد من الجرحى من بينهم الجنرال أبي أببي ، وبعثر الجمع وأخرس العدو الذي كان يقلل من شأن جبهة التحرير الإرترية والثورة الشعبية التي قادتها ، وجاءت ايضاً هذه العملية الشجاعة معلنة رفض الشعب الإرتري للاستعمار وعزمة للمضي في درب النضال البطولي الذي خطه القائد البطل عواتي ورفاقه الميامين، أصحاب الغيرة والإنفة والنفس الأبية ، وهنا أستيقظ الإمبراطور الإقطاعي من أحلامه التوسعية ، لأن الأرض التي بسط عليها نفوذه بلا حق ، قد اشتعلت لهيباً ، وإن الشعب الذي ظنه قد استكان يقاجئه بما لم يكن في الحسبان ، ولا في تخطيطه ، وانه يتجاوز – الشعب- حق المطالبة بحقه بالكلمة إلي إنتزاع هذا الحق بالعنف المسلح ، ولهذا أصدر الإمبراطور هيلي سلاسي تعليماته الفورية لمواجهة ما حدث في مدينة اغردات بالردع والقهر وتأديب الثوار ومحو وجود من يتعاون معهم ، حتى لا يقوم أو يفكر غيرهم فيما حدث في مدينة أغردات الباسلة.
وتنفيذاً لهذه التعليمات العدوانية قامت سلطات الاحتلال الاثيوبي في 15/7/1962م باعتقالات جماعية دون تمييز حتى يبلغ عدد المعتقلين في أسبوع واحد نحو 1200 مواطن من سكان مدينة أغردات ، وتعرض هؤلاء المعتقلين إلي أصناف عديدة من التعذيب الوحشي ، وتم إعدام العديد منهم من بينهم الشهيد محمد الحسن حسنو والشهيد عبدالرحيم محمد موسي
هذا وقد خلق هذا العمل الشجاع -عملية أغردات الفدائية- أصداء عظيمة في الداخل والخارج، وزاد من التفاف الجماهير حول الثورة ، وإقدام الشباب علي الالتحاق بصفوف المقاتلين ، كما ان هذا الفعل الجرئ عبدّ الطريق أمام عمليات فدائية أخري. هكذا في ذلك الوقت المبكر من عمر الثورة وفي كل مراحل الثورة اللاحقة ، كان أهل أغردات الشجعان يقفون بكل ما يملكون لدعم أبنائهم الثوار ، سواء بدفع الاشتراكات والتبرعات لصالح الثورة أو الانضمام في صفوفها ، وتحدوا العدو وجهاً لوجه دون خوف او تردد ، وكنوع من العقاب علي تلك الوقفة الوطنية الشجاعة مع الثوار أرتكب العدو الأثيوبي في التاسع من مارس 1975م بحق أهل مدينة اغردات المدنيين مجزرة بشعة تحت ذريعة مقتل أحد جواسيسها وعملائها في ضواحي مدينة أغردات من قبل الثوار ، وعرفت هذه المجزرة بيوم الأحد الأسود – سنبت طلام – راح ضحيتها خلال ساعتين أكثر من ستمائة شهيد من شيوخ ونساء ورجال وأطفال عزل قتلوا بدم بارد تم دفنهم بمشقة في مقابر جماعية ، فكانت مجزرة يندي لها جبين البشرية ويعتصر لها قلب كل ذي قلب وحس. وهنا يحضرني قول أعيان المدينة الشجعان، أنهم بعد المجزرة ذهبوا إلي سلطات الاحتلال في المدينة وقالوا لهم بأعلى صوتهم:( لماذا لا تخرجوا قبل تنفيذ المجزرة إلي خارج المدينة لتقاتلوا الثوار الذين قتلوا جاسوسكم.. لماذا قتلتم الناس العزل داخل المدينة بهذه الصورة الجبانة.. لم ولن نترك دماء أهلنا تضيع هدراً).
وهذه الإبادة البشرية كشفت عن مدي بشاعة ووحشية وحماقة وتخلف وهمجية حُكام إثيوبيا آنذاك ، ولم تكن مجزرة أغردات اولى المجازر التي اقترفها الاستعمار الاثيوبي في إرتريا ، بل سبقتها مجازر عديدة مثل مجزرة عد إبرهيم ، وأم بيرمي ، ومقرايب ، وحرقيقو ، وبسكديرا ، وعونا ، وام حجر ، وشعب وغيرها
ومن جانب آخر برهنت تلك المجازر بسالة الشعب الإرتري الصبور الذي تحمل المحن والشدائد بروح المثابرة والصمود الأسطوري والإرادة الفولاذية التي لا تلين في سبيل حريته وعزته وكرامته
هنا نصل إلي القول: بأن مدينة اغردات كغيرها من المدن الإرترية في مقاومة الاحتلال اداءاً وتنظيماً دخلت أرشيف الثورة الإرترية من اوسع ابوابه ، فهي خلود في الذاكرة لا ينتهي
وفي سياق ذي صلة: تحية لشعب إرتريا العظيم الصامد الصابر المكافح ، سائلين الله عزوجل أن يصلح أحواله وان ينعم بالأمن والسلام والاستقرار في وطن يسع الجميع